
اليوم، وتماما مثل كل يوم، فتحت جريدة المصري اليوم أول ما فتحت على صفحة رقم 13 لأحصل على حقنتي اليومية من عم جلال؛ لأحصل منه على ابتسامة يطبخها من قلب المأساة، لأرى مصر ضاحكة رغم الدماء التي تلطخ ثيابها، ولكني وجدت عم جلال وقد توقّف عن الضحك والابتسام، وتحوّل مقاله لمساحة بيضاء، أضرب فيه الكلام عن العمل بعد أن مات عازفهما الأوحد، مرددين عبارة واحدة: "الشعب يريد عودة جلال عامر".
لقد توفي جلال عامر بعد أن رأى أبناء مصر يمزّقون ثيابها، بعد أن رأى تدافعا واشتباكا بين معارضي مبارك ومؤيديه بالقرب من منزله بالإسكندرية، فشعر وقتها على ما يبدو بأن الضحك لم يعد يجدي مع هذه المأساة.. لأول مرة تتغلب النكبات على قدرة المصريين على تحويلها لفكاهة ساخرة حزينة.
كان جلال عامر صباح كل يوم يعلّم المصريين كيف يرون الجانب المضحك من المآسي الدامية، درّبهم على تحويل دموع العين الباكية لدموع عين مطروفة من فرط الضحك الذي يثيره في النفوس بعباراته المتفجرة بمتناقضات هذا الوطن المستعصي على الفهم.
رحلت عنا يا عم جلال قبل أن تخبرنا كيف يمكن لشخص تجاوز الستين، وعايش إنجازات ثورة يوليو، ونصر 1973، ورغم كل ما سبق لم تعتبر الثورة لعب عيال كباقي جيلك، لم تخبرنا كيف نقنع آباءنا بأن الشعوب لم تعرف يوما ثورة ديليفري تصل للمنازل، خاصة إذا كان المجلس هو المسئول عن توصيل الثورة للمنازل!
لم تخبرنا يا عم جلال كيف أقنع والدي وباقي جيله بأننا نفعل ما نفعله ليس من أجلنا وإلا ما قبلنا أن نموت في الشوارع ويلقى بجثثنا في مقالب القمامة، وأننا أقدمنا على ذلك من أجل وطن مرفوع الرأس، ومواطنين لا يعرفون جملا من نوعية "امشي جنب الحيط"، و"ابعد عن الشر وغني له"؛ لأن الشر في أيامنا هذه سيلاحقك حتى وإن تجنّبته، ووقتها لن يرحمك لو غنّيت له بل سيقتلك بجوار نفس الحائط الذي سرت بمحاذاته.
أخبرنا يا عمّ جلال كيف تكون ضابط جيش، وتهاجم المجلس العسكري بهذه الشراسة، كيف تكون ضابط جيش ولا تهاجم الثورة والثوار الذي "يهينون" المجلس العسكري العظيم، كيف لهم أن يتجاوزوا حدودهم مع 19 شخصا أصبحوا فجأة هم جيش مصر، بل ربما أصبحوا هم مصر نفسها، كيف تكون ثوريا لهذه الدرجة، بينما أنت ابن المؤسسة العسكرية وأحرى بك أن تنتمي للمجلس العسكري؟
أخبرنا يا عم جلال كيف تكون منطقياً وساخراً ومتحرراً لهذه الدرجة، كيف تقول للأعور أنت أعور في عينه وتجعله يبتسم رغم ذلك، كيف تخطّيت الستين بقلب شاب في العشرين، كيف كنت ثورياً أكثر من الثوار، لماذا شذذت عن أبناء جيلك، ووقفت مع الثورة في الوقت الذي استسهلوا هم لعنها وسبها؟
أين كانت بدايتك يا عم جلال؟ أين كنت؟ كيف ظهرت لنا فجأة من العدم لتعطينا الأمل قبل أن تتركنا وترحل؟ رحلت عنا قبل أن نسألك عن إجابات أسئلة كثيرة وقد اقترب الامتحان، لماذا لم تنتظر لتحضر معنا مراجعة ليلة الامتحان في ملحق إعادة الثورة؟
ارجع يا عم جلال.. لقد اشتقنا لضحكة تبيعها لنا مجاناً