صدر في عمّان في مطلع عام 2012م عن مكتب مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية الكتاب السابع من سلسلة دراسات حول الحركات الإسلامية في الأردن بعنوان "الطرق الصوفية، دروب الله الروحية.. التكيف والتجديد في سياق التحديث" للباحث حسن أبو هنيّة. الكتاب من القطع المتوسط وطُبع باللغتين العربية والإنجليزية، فالقسم العربي جاء في 168 صفحة بينما ترجمته الإنجليزية جاءت في 290 صفحة!! وتأتي أهمية الكتاب من كونه أول كتاب يتناول صوفية الأردن بالتحديد ويبين خريطتهم وتنوع طرقهم وأماكن انتشارهم وزواياهم، وهو ما احتل في الكتاب حوالى 50 صفحة، سبقتها 90 صفحة عرض فيها المؤلف لمفهوم التصوف وتاريخه وتطوراته، وختم الكتاب بحديث مكثف عن الدور السياسي للطرق الصوفية ومحاولات إنشاء كيان موحد لهم. من الواضح أن الكاتب متأثر جداً بالرؤية الاستشراقية الحديثة للتصوف في مقدماته وعنوانه للكتاب، بل صرح في عدة مواطن بذلك، ولذلك كانت أغلب مراجعه مؤلفات غربية عن ظاهرة (إسلامية)!! فهل هذا لكون المقصود بالدراسة بالدرجة الأولى القارئ الأجنبي؟؟ لكن العجب يزداد حين تعرف أن الكاتب كان تلميذا للأستاذ محمود عبد الرؤوف القاسم، صاحب كتاب "الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ" لكنه لم يشر له إطلاقاً حتى عندما استعرض أسماء الكتب التي نقدت التصوف، وسار على طريق مناقض تماماً لأستاذه السابق، حيث أبدى الكاتب لي في حوار مباشر رفضه لرأي القاسم القائل بأن فكرة وحدة الوجود هي حقيقة التصوف، وإن كان كثير من عوام المتصوفة لا يدركون ذلك، وهو رأي يؤمن به كثير من المتصوفة والدارسين للتصوف، وقد ظهر في ثنايا كلام الكاتب ثناء على وحدة الوجود وابن عربي منظر وحدة الوجود الأهم، يقول أبو هنية: "وقد أنتج – يقصد مدرسة وحدة الوجود وابن عربي- مصنفات صوفية عظيمة متشبعة بنظريات فلسفية فريدة عميقة ومبدعة"!! والكاتب منسحق أمام المفاهيم الغربية في التصوف وغيرها بدعوى أنها حقائق علم الاجتماع، وهذا ما جعله يعالج بعض أخطاء المستشرقين السابقين بخطأ جديد للمستشرقين الجدد، فهو يرفض موقف قدماء المستشرقين الذين كانوا يعزون التصوف للديانات والمذاهب غير الإسلامية ليس بغرض تنزيه الإسلام عن أفكار التصوف المنحرفة، بل بغرض تحقير الإسلام من خلال الزعم بأنه لا يمكن أن يقدم شيئا جيداً بذاته، فهم يحاولون تصوير الإسلام على أنه تقليد للنصرانية واليهودية بشكل خاص، وطبعاً هذا خطأ مرفوض وعدوان مردود. لكن علاجه لا يكون بأن نزعم بأن التصوف هو تطور طبيعي في داخل الإسلام لمسيرة الزهد والزهاد من السلف والتابعين كما قرر الكاتب ذلك مجاراة للمستشرقين الجدد!! فالزهد عند السلف نابع من نفس الإسلام ومتقيد بضوابطه الشرعية، لكن حين وفد التصوف - وهو منهج معروف عند أصحاب الديانات السابقة السماوية والوضعية – مع توسع رقعة الإسلام ودخول كثير من الناس فيه عن غير قناعة كاملة أو لجهل أو لحقد ومكر فإنه تعلقوا بالزهد كغطاء لهم، ولذلك فإن السلف أنكروا عليهم ما استحدثوه من بدع التصوف كالسماع والتغبير، وكلمة الإمام الشافعي في التصوف مشهورة "لو أن رجلا تصوف أول النهار: لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق"، لأن السلف عرفوا الفرق بين الزهد والتصوف وأن هذا الوافد الجديد مناقض للإسلام. وقد نقل الكاتب عن د.عبدالحليم محمود وهو من دعاة التصوف الكبار في هذا العصر قوله: "الزهد في الدنيا شيء والتصوف شيء آخر، ولا يلزم عن كون الصوفي زاهداً، أن يكون التصوف هو الزهد"!! فزعم الكاتب أن التصوف تطور طبيعي لمسيرة الإسلام أو نتاج لقانون التحول الاجتماعي هو زعم متهافت، بل نص علماؤنا على أن بداية التصوف كانت بمؤثرات خارجية عن الإسلام كما يروى عن سبب انحراف مالك بن دينار والذي يعد من أوائل المتصوفة حيث ينسب ذلك لمطالعته كتباً منقولة عن أهل الكتاب فيها: "لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة ويأوي إلى مزابل الكلاب"، وهذا مصادم لبدهيات الشريعة الإسلامية. وقد وقع في ذلك بعض الناس بجهل وحسن نية لكن تأسيس مفاهيم التصوف الفلسفية لم تكن حركة بريئة عن مكر خصوم الإسلام ولا تطوراً من الإسلام، خاصة مع زعم الطرق الصوفية جميعاً أنهم يرجعون في طريقتهم لأبي بكر الصديق أو علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فهل يقول المتصوفة أنهم تلقوا هذه المفاهيم المنحرفة أو البدع عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟؟ كما أن الكاتب لم يوفّق بتاتاً في تصويره لواقع بداية المجتمع الإسلامي حيث تأثر بشكل غريب بالدعاية الاستشراقية القديمة – التي زعم رفضه لها – فيقول إن سبب ظهور التصوف هو: "ما شهدته دار الإسلام في مراحلها المبكرة من فوضى سياسية وفتن وحروب داخلية أفضت إلى قلق روحى ومظالم اجتماعية وتفاوت فاحش بين الناس" (ص 9)، ويقول أيضاً: "الظروف التي عايشها الإسلام المبكر والتي تمثلت بالفوضى السياسية والنزاع على السلطة والفتن والحروب الداخلية عملت على شيوع حالة من القلق الروحي وإحساس بالظلم الاجتماعي وانتشار التفاوت الطبقي بين مترف ومعدم" (ص 33). وهذا ترديد لأكاذيب المستشرقين ومبالغاتهم، فإن ما حدث في صدر الإسلام لم يكن بهذه الصورة السوداوية التي سطرها الكاتب، وإلا فكيف حقق الإسلام في ذلك العصر أروع انتصاراته وشهد ذلك العصر حالة من العدل والرحمة عمت العالم كله كما أن إبداعات النهضة الإسلامية تفتحت في ذلك العصر حين كرم العلماء وتنافس الخلفاء في دفع عجلة التقدم والرخاء، أما ما وقع من مشاكل وقلاقل في بقاع محدودة ولفترات محدودة فقد كان شيئاً عادياً بالنسبة لأي تحولات كبرى عرفتها البشرية، كما أنها كانت شيئاً معتاداً عليه في ثقافة ذلك الزمان وطبيعته. في القسم الثاني وهو القسم المهم والمميز في الكتاب والذي بذل الكاتب فيه جهداً كبيراً من خلال اللقاءات الميدانية والمباشرة بشيوخ الطرق الصوفية في مختلف أنحاء الأردن، وقد حصر الكاتب دراسته في الطرق الصوفية التقليدية التي لها زوايا وتكايا فقط ولم تتناول دراسته الجماعات التي يعد التصوف مكوناً رئيسياً فيها مثل: جماعة الأحباش وهي تتبع الطريقة الرفاعية، وجماعة التبليغ التي تتبع الطريقة الششتية الهندية، ومجموعة الطباعيات والتي تتبع القبيسيات في سوريا والتي هي بدورها تتبع الطريقة النقشبندية، وأيضاً لم يتناول أتباع الحبيب علي الجفري في الأردن مثل عون القدومي وأحمد الصوّي. يذكر الكاتب أن بداية التصوف في الأردن تعود لسنة 1910 على يد الشيخ محمد القذف الموريتاني الذي نشر الشاذلية في مدينة السلط، أما الطريقة الشاذلية الغظفية القادرية فهي أقدم طريقة دخلت الأردن في عشرينيات القرن الماضي وأقامت زاوية قرب العاصمة عمان على يد الشريف محمد الأمين، وأن الطريقة الشاذلية اليشرطية فدخلت الأردن بعدها بعشر سنوات تقريبا، وبعدها جاءت الطريقة الخلوتية وكلاهما جاء من فلسطين. وتعد الطريقتان الشاذلية الدرقاوية والعلاوية الفلالية أكثر الطرق انتشارا في الأردن، ومن أبرز شيوخها حازم أبو غزالة. أما الطريقة الرفاعية فجاءت من فلسطين أيضا بعد نكبة عام 1948، ومثلها الطريقة الرواسية الرفاعية. أما الطريقة القادرية فقد جاء شيخها عبدالحليم القادري إلى الاردن عام 1938. |