
عبد القادر الجيلاني وآراؤه
الحلقة الأولى
موقع الصوفية : الشيخ عبد الرحمن نموس
قراءة نقدية جادة لرسالة الدكتور سعيد القحطاني -حفظه الله- لما لأثر الشيخ عبد القادر الجيلاني على طائفة من المريدين أردنا تسديد هذه الرسالة بهذه الدراسة النقدية..
الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراءه الاعتقادية والصوفية - تعليقا على بعض ما جاء في رسالة الدكتور الفاضل سعيد بن مسفر القحطاني.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد:
فإن بعض مشايخ التصوف كانوا في دعوتهم أقل ميلاً إلى الفلسفة من البعض الآخر, وأكثر ميلا إلى الزهد والفقر من كثير ممن خلط تصوفه بالفلسفة, ومن هؤلاء الذين مالوا إلى الحديث في الزهد كثيراً الشيخ عبد القادر الجيلاني, ولكنه رغم زهده، وميله فيما كتب إلى التركيز على ما يُعرف بتصفية النفوس فقد لوحِظَت في كتاباته بعض المسائل التي يقف طالب العلم عندها.
ولقد حاول الدكتور الفاضل سعيد بن مسفر أن يدرُسَ آراء الشيخ عبد القادر بالتفصيل من خلال رسالته لشهادة الدكتوراة الموسومة (الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراءه الاعتقادية والصوفية) وبعد الاطلاع على هذه الرسالة القيمة بدت لي بعض الملاحظات رأيت أنه لابد من تدوينها.
فإذا كان د. سعيد بن مسفر قد جعل جُلَّ آرائه مبنية على الكتب الثابتة للشيخ عبد القادر الجيلاني وهي:
1- الغُنية لطالب طريق الحق.
2- فُتوح الغيب.
3- الفتح الرباني (أحياناً).
فإن الملاحظات المُقَدَّمة لا تخرج عن هذه الكتب حتى تكون المحاججة فيما هو ثابت النسب للشيخ.
ومن ذلك:
أولاً: في مجال العقيدة: قال الدكتور سعيد بن مسفر عن الشيخ الجيلاني تحت عنوان (إعراضه عن علم الكلام): "من قواعد الشيخ عبد القادر في إيضاح العقيدة إعراضه عن علم الكلام وعدم اعتماده عليه لأنه يرى أنه منشأ الضلالات التي وقع فيها القوم ولذا نقل في كتابه الغُنية قول الإمام أحمد رحمه الله: "لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله عز وجل أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه رضي الله عنهم أو عن التابعين فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود فلا يُقال في صفات الرب كيفَ ولِمَ ولا يقول ذلك إلا شاك"(1).
ولكن الملاحظ فعلاً الشيخ عبد القادر يسلك مسلك أهل الكلام عندما يتكلم عن معرفة الله تحت عنوان: باب معرفة الصانع. من كتاب (الغنية) فيقول:
"أما معرفة الصانع عز وجل بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهي أن يعرف ويتيقن أنه واحدٌ أحد فردٌ صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد, وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا شبيه له ولا نظير ولا عون ولا شريك ولا ظهير ولا وزير ولا ند ولا مشير، ليس بجسم فيُمس ولا بجوهر فيحس، ولا بعرض فيفنى ولا ذي تركيب أو آلة أو تأليف وماهية وتحديد...... وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، حفيظ لا ينسى يقظان لا يسهو أرِقٌ لا يغفل"(2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن المعلوم أن الكلام في الجواهر والأعراض في أدلة أصول الدين ومسائله هي الطريقة التي سلكها المعتزلة وأخذها عنهم الصفاتية من الأشعرية ونحوهم"(3).
وقال رحمه الله: "وأما أصحاب الكلام والمقال البهتاني فإنهم بنوا أصولهم العقلية وأصول دينهم الذي ابتدعوه على مخالفة الحس والعقل، فأهل الكلام أصل كلامهم في الجواهر والأعراض مبني على مخالفة الحس والعقل"(4).
وقال رحمه الله: "ولهذا كان السلف والأئمة يذمّون كلامهم في الجواهر والأعراض وبناءهم علم الدين على ما ذكروه من هذه المقدمات"(5).
وقال رحمه الله في تفسير سورة الإخلاص: "ولهذا لما سئل أبو العباس بن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين وقال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض وإنما بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك".
قال شيخ الإسلام: "ولم يرد بذلك أنه أنكر هذين اللفظين فإنهما لم يكونا قد أُحدِثا في زمنه وإنما أراد إنكار ما يُعنى بهما من المعاني الباطلة"(6).
أما قول الشيخ عبد القادر الجيلاني عن الله تبارك تعالى: "... ولا ذي تركيب" فهي مقولة الفلاسفة الأوائل منذ زمن أفلاطون, فقد قال أفلاطون في تعريف الإله: "وهو خير بذاته وهو أعظم الحقائق ثبوتاً, وهو مُستعصٍ عن الوصف بلغة الكلام وهو معشوق لذاته وهو واحد بسيط أزلي كامل لا يتغير"(7).
ويصف أرسطو اللهَ عز وجل بقوله: "مُحرّك أول غير متحرك تتحرك به الأشياء وهو أزلي أبدي قديم وهو عقل.. ولا تشوبه الهيولى، ولا هو ذو حجم فالمحرك الأول واحد في الحد والعدد" والمقصود أنه بسيط ليس بذي تركيب(8).
أما أفلوطين الذي تُنسبُ له الأفلاطونية المُحدَثة فيقول عن الله تبارك وتعالى: "كل ما كان بعد الأول فهو من الأول اضطراراً، إلا أنه إما أن يكون منه بلا توسط, وإما أن يكون منه بتوسط أشياء أخرى هي بينه وبين الأول، فيكون إذن للأشياء نظام وشرح, ذلك أن منها ما هو ثانٍ بعد الأول ومنها ما هو ثالث,.... وينبغي أن يكون قبل الأشياء كلها شيء بسيط.. وأن يكون مكتفيا غنيا بنفسه.. وذلك أنه إن لم يكن الأول بسيطاً واحداً حقاً خارجاً عن كل صفة وعن كل تركيب لم يكن أولاً البتة"(9).
أما قول الشيخ عبد القادر عن الحق تبارك وتعالى: "وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك" فهي عبارة جهمية، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يلتمس للشيخ عبد القادر العذر فيها, فحين تظهر هذه العبارة من الجهمية يرد شيخ الإسلام بقوة عليها فيقول: "... سبحانه الذي يقال له: يا رحمن يا رحيم فيكلم عباده بلا كيف: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] بلا كيف لا كما قالت الجهمية أنه على الملك احتوى ولا استولى"(10).
ولكن شيخ الإسلام عندما يُعلّق على كلام الشيخ عبد القادر يقول: "قوله رحمه الله محتوٍ على الملك أي محيط علمه به, أو أنه سبحانه وتعالى منفرد به لا شريك فيه, وليس معناه أنه قد حل فيه شيء من خلقه أو أن خلقه فيه فهذا لا يقوله أحد من أهل الإسلام وليس مراداً من كلام الشيخ رحمه الله, إنما المُراد هنا بقوله محتو على الملك, إما أن يُقال أنه محيط به كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحيِطَاً}[النساء: 126] أو أنه منفرد به سبحانه وتعالى"(11).
وهذه المسائل لم يتعرض الدكتور الفاضل سعيد بن مسفر لها أبدا في البابين الأول والثاني المعنيين في هذا الأمر.
ثانياً: قرر الدكتور سعيد بن مسفر في فصل: ((هل يوصَف الله عز وجل بغير ما وصف به نفسه)) أن الشيخ الجيلاني يلزم في عرضه لأسماء الله الحسنى وصفاته عز وجل غالباً بلفظ النصوص الواردة وهذا غاية في الاحتياط منه رحمه الله في الحديث عن الله عز وجل وأسمائه وصفاته.
ولكن الشيخ رحمه الله وصف ربه بالأرق –بقوله: أرِقٌ لا يغفل ولا أعلم لهذا الوصف دليلاً من كتاب أو سنة- أما معناه لغة وهو عدم النوم فهو معنى قاصر؛ لأن أهل اللغة يُعَرّفون الأرق بعدم النوم ليلاً إضافة إلى أن الأرق يكون عن شاغل يشغل من أرق عن النوم.
البدعة وموقف الشيخ عبد القادر الجيلاني منها
نقل فضيلة الشيخ د. سعيد بن مسفر تعريف البدعة لغة فقال: "البدعة في اللغة تطلق على الشيء المخترع على غير مثال سابق, أي الأمر المُحدث والجديد, فيقال لمن أتى بأن لم يسبقه إليه أحد ابتدع".
كما نقل الدكتور سعيد عدة تعريفات اصطلاحية ختمها بقوله: "ويمكن القول بأن معالم البدعة تبرز في كونها إحداثا في دين الله بغير دليل شرعي".
وأتبع ذلك بقوله: "والشيخ عبد القادر الجيلاني يحذر دائما من الابتداع في الدين ويوصي بالاتباع ويقرن ذلك بوصيته بالتوحيد وضرورة مجانبة الشرك وكأنه يُنزل البدعة في الخطورة منزلة الشرك فيقول: "اتبعوا ولا تبتدعوا, وأطيعوا ولا تمرقوا، ووحدوا ولا تشركوا".
ويبين الشيخ عبد القادر أن أساس الخير في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "أساس الخير في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله".
ونقل عدة أقوال أخرى في هذا المعنى وقسّم الدكتور سعيد حفظه الله البدع إلى اعتقادية وعملية.
وقال أثناء حديثه عن البدع الاعتقادية: "والشيخ عبد القادر الجيلاني يبدو أنه يتحدث حينما يتحدث عن البدع ويحذر منها فإنما يعني البدع الاعتقادية, بدليل وقوعه في بعض البدع العملية في العبادة.. وهذا ما يجعلنا نحمل كل تحذيراته عن البدع الاعتقادية"(12).
يقول د. سعيد بن مسفر: "بعد هذا التفصيل ولما كانت العصمة للأنبياء فقط وغيرهم معرض لذلك فقد وقع الشيخ عبد القادر الجيلاني في الكثير من البدع العملية,... وهذا لا يحط من قدره رحمه الله بل نسلك معه مسلك أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال بإعطائه حقه, ومحبّته, بقدر ما فيه من الإيمان مع عدم موافقته فيما أخطأ فيه".
أقول: بل وقع الشيخ عبد القادر في الأخطاء الاعتقادية وهو ما ذُكِرَ في الفقرة الأولى من هذه المقالة, حيث قال الشيخ عبد القادر في كتاب الغُنية تحت باب: (معرفة الصانع)...: "وليس بجسم فيسمى ولا جوهر فيسمى ولا عرض فيفنى ولا ذي تركيب أو آلة وتأليف وماهية وتحديد".
أما البدع العملية فلا شك أنا كثيرة في كتبه؛ بحيث تصل إلى حد تشويه هذه الكتب, وقد ذكر فضيلة الدكتور سعيد بن مسفر منها:
1- بدعة السفر غلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
2- قصد القبر للاستغفار والدعاء.
3- بدعة تخصيص رجب ببعض العبادات. وذكر فيه حديثا موضوعاً قال عنه د.سعيد بن مسفر: "هذا الأثر مكذوب وفيه من الدجل والتهاويل ما يشهد بكذبه وقد صرح بوضع صاحب ذيل الآني ص117 وقال: "هذا الإسناد ظلمات بعضها فوق بعض".
4- بدعة تخصيص بضعة أيام وبضعة ليالي بصلوات محددة وهو فصل كبير ذكر فيه عددا لا يُستهان به من الأحاديث الموضوعة، وقد أورد د.سعيد بن مسفر نماذج منها في الصفحات من 460 إلى 463.
5- بدعة تخصيص يوم عاشوراء ببعض العبادات, وذكر فيها حديثاً موضوعاً.
6- بدعة تخصيص ليلة النصف من شعبان وذكر فيها حديثا موضوعا وقد ذكر ذلك د. سعيد بن مسفر في الهامش قائلا: "هذا الحديث ذكره السيوطي في الدرر المنثورة وقال إن البيهقي قال عنه.... أن يكون هذا الحديث موضوعا وهو منكر وفي روايته مجهولون".
وبالجملة فهذه البدع العملية التي قال بها الشيخ الجيلاني هي بدع كافة الصوفية وهو لا يختلف عنهم في ذلك أبداً.
مسألة التوكل:
تعرّض د. سعيد بن مسفر لمسألة التوكل قائلا: "والتوكل أصل من أصول العبادة لا يتم توحيد العبد إلا به.. قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] (13)".
وقد عَرَّفَ الشيخ عبد القادر الجيلاني حقيقة التوكل بقوله: "حقيقته كحقيقة الإخلاص، وحقيقة الإخلاص ارتفاع الهمة عن طلب الأعواض على الأعمال, وكذلك التوكل هو الخروج من الحول والقوة مع السكون إلى رب الأرباب".
علّق د.سعيد بن مسفر قائلا: "وهو يعني بذلك عدم الاعتماد على حول الإنسان وقوته، ولكنه لا يعني بذلك ترك الأسباب وعدم الأخذ بها؛ بل يدعو إلى إعطاء الأسباب حقها.. حيث يقول: "أعط السبب حقه وتوكل واقعد على باب العمل"(14).
وهذا على خلاف ما ذكره الشيخ عبد القادر في الغُنية حيث يقول: "وحقيقة التوكل تفويض الأمور إلى الله عز وجل والترقّي عن ظلمات الاختيار والتدبير والترقي إلى ساحات شهود الأحكام والتقدير فيقطع العبد أن لا تبديل للقسمة فيما قُسم له لا يفوته, وما لم يقدر لا يناله, فيسكن قلبه إلى ذلك ويطمئن إلى وعد مولاه فيأخذ من مولاه"(15).
ثم ذكر أقوالا في التوكل منها: "التوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين.. وقيل التوكل صفة الأنبياء والتسليم صفة إبراهيم والتفويض صفة نبينا صلوات الله عليهم أجمعين".
ويتابع الشيخ عبد القادر فيقول: "والتوكل مع كمال الحقيقة وقع لإبراهيم عليه السلام في الوقت الذي قال فيه لجبريل: "أما إليك فلا" لأنه غابت نفسه حتى لم يبق لها أثر، فلم ير مع الله تعالى غير الله عز وجل.
وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: "أول مقام التوكل أن يكون العبد بين يدي الله عز وجل كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد, لا يكون له حركة ولا تدبير فالتوكل على الله سبحانه وتعالى يكون لا يسأل ولا يريد ولا يردٌّ ولا يحبس..".
وروي عن جعفر الخلدي قال: "قال إبراهيم الخواص رحمه الله: كنت في طريق مكة مارا فرأيت شخصا وحشياً... الله فقلت: أجنّي أم أنسي؟ فقال: بل جني, فقلت: إلى أين؟ فقال:إلى قعة, فقلت له: بلا زاد ولا راحلة؟ فقال: نعم إن فينا أيضاً من يسافر على التوكل, فقلت: ما التوكل؟, فقال: الأخذ من الله بلا واسطة... وقيل: هو السكون عن الحركات اعتماداً على خالق السماوات"(16). وقال الشيخ عبد القادر: "عن أبي موسى الدبيلي قال: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ الرسغ لم تخف مع الله شيئاً, فقال أبو موسى رحمه الله: فخرجت إلى أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى أسأله عن التوكل فدققت عليه الباب فقال لي: يا أبا موسى! ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني؟ فقلت: يا سيدي افتح الباب, فقال: لو جئتني زائراً لفتحت لك الباب, خذ الجواب من الباب, فانصرفت فلو أن الحية التي هي مطوقة بالعرش همّت بك فلا تخف مع الله شيئاً, قال أبو موسى: فانصرفت حتى جئت إلى دبيل فأقمت فيها سنة, ثم اعتقدت الزيارة, فخرجت إلى أبي يزيد, فلما وصلت إليه قال لي: الآن جئت زائراً, أدخل. فأقمتُ عندهُ شهراً ولا يقع لي شيء إلا أخبرني به قبل أن أسأله, فقله له: يا أبا يزيد أريد الخروج فأطلب منك فائدة, فقال: اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة, فانصرفت, فجعلتها فائدة"(17).
وقال ذو النون المصري: "التوكل ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة".
قال الشيخ عبد القادر بعد كل هذه الروايات كلاماً موافقاً لمنهج أهل السنة والجماعة ومنه: "وأما الحركة بالظاهر التي هي الكسب بالنية فلا تنافي توكل القلب وهو تحقيق الإيمان، فمن أنكر الكسب فقد أنكر السنة, ومن أنكر التوكل فقد أنكر الإيمان".
ولكنه رحمه الله يعود دائماً ليركز على ترك الدنيا بالكلية؛ بل وترك الأخرى معها؛ لأن المراد هو الله فيقول: "أما الإرادة فترك ما جرت عليه العادة, وتحقيقها نهوض القلب في طلب الحق سبحانه وترك ما سواه, فإذا ترك العبد العادة التي هي حظوظ الدنيا والأخرى فتجرد حينئذ إرادته".
والخلاصة أن الشيخ عبد القادر الجيلاني يقول بالكسب مرة ويحض على تركه مرات.
إضافة إلى استشهاده في السياق بقصص مفرطة في التطرف في معنى التوكل ومؤداها علم الغيب كما حصل لأبي يزيد ومن زاره حيث كان يعلم ما في نفسه قبل البوح به؟!!!.
وقال في التوكل في كتاب (فتوح الغيب): قال الله تعالى في بعض كتبه: "يا ابن آدم أنا الله الذي لا إله إلا أنا أقول للشيء كن فيكون, أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون", وقد فعل ذلك بكثير من أنبيائه وأوليائه وخواصه من بني آدم.
التصوف عند الشيخ الجيلاني
لقد لاحظ د.سعيد بن مسفر ونبه إلى المفارقة الموجودة عند الشيخ عبد القادر الجيلاني الموجودة في التصوف وفي غيره وأقرّها في هذا الفصل فقال في ذلك: "وهناك نصوص كثيرة ترشد إلى منهجه وتدل على بعده عن الانحرافات الصوفية، إلا أنه كما سبق أن أشرنا في سمات التصوف في المرحلة الثانية من الإكثار من دعوى الالتزام بالكتاب والسنة ونهج السلف, ثم وجود المفارقات وعدم الالتزام بهذه الدعوى عند التطبيق، وهذا ينطبق أيضاً على الشيخ عبد القادر الجيلاني..".
فانظر إلى عبارات الشيخ عبد القادر في الصوفي: "والصوفي محمول.. حمل المتصوف كل ثقيل وخفيف فحُمِلَ حتى ذابت نفسه وزال هواه وتلاشت إرادته وأمانته فصار صافياً فسمي صوفيا فحُمل فصار محمول القدر، كرة المشيئة، مربى القدس, منبع العلوم والحكم, بيت الأمن والفوز, كهف الأولياء والأبدال، وموئلهم، ومرجعهم، ومتنفسهم، ومستراحهم، ومسرتهم، إذ هو عين القلادة، درة التاج، منظر الرب.
والمريد المتصوف: مكابد لنفسه وهواه وشيطانه وخلقه ربه دنياه وأخراه متعبد لربه عز وجل بمفارقة الجهات الست.. والأشياء, وترك العمل لها وموافقتها... يخالف شيطانه ويترك دنياه ويفارق أقرانه وسائر خلق ربه بحكمه عز وجل لطلب أخراه، ثم يجاهد نفسه وهواه بأمر الله عز وجل فيفارق أخراه وما أعد الله عز وجل لأوليائه فيها من جنة, لرغبته في مولاه, فيصفى من الأحداث ويتجوهر لرب الأنام، فتنقطع من العلائق والأسباب والأهل والأولاد فتنسد عنه الجهات، وتنفتح في وجهه جهة الجهات وباب الأبواب وهو الرضا بقضاء رب الأنام ورب الأرباب فينفصل فيه من العالم بما كان وما هو آت.. ثم يفتح نجاه هذا الباب باب يسمى باب القرب إلى المليك الديان ثم يرفع إلى مجالس الأنس ثم يجلس على كرسي التوحيد، ثم يرفع عنه الحجب ويدخل في دار الفردانية ويكشف عنه الجلال والعظمة فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو غائبا عن نفسه وصفاته, عن حوله وقوته وحركته وإرادته ومناه ودنياه وأخراه فيصير كإناء بلور مملوء ماء صافيا تتبلور فيه الأشباح"(18).
وكلامه هو عين كلام الغزالي عند الوصول إلى حالة الفناء التي يصفها الغزالي ببيت شعرٍ يقول فيه:
رق الزجاج ورقت الخمر *** وتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ *** وكأنما قدحٌ ولا خمرُ
وللأسف الشديد فإن د.سعيد لم يناقش في بحثه القيّم هذه المسألة وكأنه لم يمر بها.
_______________
(1) الغنية لطالبي طريق الحق: 1/ 56. من كتاب الغنية وصفحة 79 من رسالة الدكتور سعيد بن مسفر.
(2) الغنية - باب معرفة الصانع: ص85.
(3) الاستقامة ص102.
(4) النبوات - فصل خوارق السحرة والكهان: ص147.
(5) بيان تلبيس الجهمية: ص131.
(6) رسالة في تفسير سورة الإخلاص: ص41.
(7) تاريخ الفلسفة العربية- جميل صليبا: ص44.
(8) الصوفية بين الدين والفلسفة للكاتب.
(9) التساعات: 4/ 156 وما يليها.
(10) مجموع الفتاوى: 6/ 174.
(11) الفتوى الحموية.
(12) الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراؤه الاعتقادية: ص430-431.
(13) الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراؤه الاعتقادية: ص140.
(14) فتوح الغيب - المجلس الخمسون: ص140.
(15) الغنية: ص477.
(16) الغنية: ص478.
(17) المصدر نفسه.
(18) الغنية: ص441-442