الموالد .. تجارة ترتدي عباءة الذاكرين
موقع الصوفية : أسامة الهتيمي
للذكر في الإسلام منزلة رفيعة، فقد حثت آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين والمؤمنات على أن يكونوا دائمي الذكر لله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152]، (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]، وفي الحديث النبوي: (سبق المُفَرِّدون)، قالوا: وما المفَرِّدون يا رسول الله؟ قال: (الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات).
وعدد الإسلام من أشكال الذكر وأنواعه؛ فقراءة القرآن ذكر، والصلاة ذكر، والتفكر في خلق السموات والأرض ذكر، والتسبيح والتكبير ذكر، فذكر الله تعالى يمكن أن يكون في كل وقت وعلى كل حال، إلا أن يكون حالًا فيه مخالفة صريحة لما جاء به الإسلام؛ من حفظ التوحيد، أو وقوع الاختلاط، أو نجاسة المكان، أو ارتكاب ما حرم الإسلام وكرهه من سلوكيات وأفعال.
غير أن الصوفية ـ وكعادتهم من المخالفة ـ ادعوا أن زيارة الأضرحة والاحتفال بموالد الموتى وما يفعلون فيها هو أيضًا ذكر لله، وهو ما استلفت انتباه العلماء والدعاة المسلمين الذين حذروا مرارًا من المشاركة في مثل هذه الاحتفالات التي تمتلئ بالمخالفات الشرعية والسلوكية.
إلا أن أمر ظاهرة الموالد وزيارة الأضرحة لم يقتصر عند حد المخالفة الشرعية فحسب، بل كان له بعده المادي والاقتصادي الذي استوقف العديد من الباحثين في علم الاجتماع ونشأة العادات والأعراف، إذ خلصوا في بحوثهم إلى أن هناك ارتباط زمني بين إقامة هذه الموالد ومواسم حصاد بعض المحاصيل في المدن التي تقام بها هذه الموالد، وهو ما يحمل دلالة وإشارة قوية إلى أن الهدف الرئيس من إقامة الموالد لم يكن دافع الذكر ـ وإن كان ذلك أبعد ما يكون عن الذكر ـ ولكن دافعه الحقيقي هو إقامة سوق تجاري، يتم خلاله بيع المحاصيل بحسب ما أشار الخبير المصري بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الدكتور علي فهمي في كتابه "دين الحرافيش في مصر المحروسة" حيث قال: (إن مواسم الموالد ترتبط في الأقاليم المصرية بمواسم تصريف محاصيل زراعية بعينها وتقترن مواعيدها بمواعيد الانتهاء من جني المحصول الذي يشتهر به الإقليم الذي يقام فيه المولد).
سوق رابحة:
ويذهب إلى هذا الرأي الدكتور إمام عبد الله أستاذ الفلسفة والأخلاق الإسلامية الذي يؤكد أن إقامة الموالد وزيارة الأضرحة أبعد ما تكون عن مقصود ذكر الله تعالى، فالأمر في مرحلة زمنية معينة لا يعدو عن كونه فرصة كبيرة ربما لا تتكرر لتصريف المنتجات الصناعية أو الزراعية التي ينتجها أهل مدينة بعينها، إذ يصعب توزيعها أو بيعها في حال لم تتم إقامة هذا الاحتفال الذي تم تسميته بين الناس "المولد" فالتجارة الرائجة في القري والريف هي تجارة المواشي والحيوانات والحبوب الزراعية أما تجارة موالد المدن فغالبًا ما تكون سلعًا أخرى كالملابس والمأكولات والأجهزة وبعض المنتجات اليدوية.
ويقول الدكتور عبد الله: (إن مولد السيد البدوي الذي يقام في مدينة طنطا مثلًا يتزامن مع إنتاج محصول ضخم من الحمص، الذي كان يمكن أن يصير بضاعة راكدة لا قيمة لها لو أن الناس لم تتوجه لطنطا للاحتفال بهذا المولد، وعليه فإن إقامة الاحتفال بمولد البدوي ومشاركة هذه الجموع من كل أنحاء مصر، يساهم بشكل كبير في بيع الحمص ومعه العديد من السلع الأخرى التي بات يرتبط بيعها بأي مولد في مصر).
ويؤكد الدكتور عبد الله أن (الكثير من التجار يتعاطون مع هذه الموالد ليس باعتبارها أحد أشكال الذكر، ولكن باعتبارها فرصة للتجارة وسوقًا رائجة يحققون من ورائها مكاسب هائلة، فأغلب المشاركين في هذه الموالد يقبلون على الشراء تبركًا ـ بحسب زعمهم ـ بالولي الذي يحتفلون بمولده).
ويضيف الدكتور إمام أن (ما يعضد هذا القول هو أن أغلب هؤلاء الأولياء الذين يقام لهم احتفالات بمولدهم لم تعرف تواريخ ميلادهم على وجه الدقة، بل إن أغلبهم ليسوا من مصر، ومن ثم فإن الاحتفال بمولدهم جاء وفقًا لما يريده أهل كل مدينة من هذه المدن).
تجارة البركة:
ويقول الباحث الاجتماعي الدكتور أيمن رمضان عبد الفتاح: (إن البعد التجاري في مسألة الموالد وزيارة الأضرحة جزء من الموروثات الشعبية التي تعارف عليها الشعب المصري منذ عهد الدولة الفاطمية الشيعية وحتى الآن، فالكثير ممن يشاركون في هذه الاحتفالات يحرصون بشدة على أن يعودوا إلى مساكنهم وهم يحملون معهم الحمص والحلوى وبعض الألعاب اليدوية؛ ليوزعوها على الجيران والأقارب الذين هم بدورهم يكونون في انتظار الهدايا التي تحمل إليهم البركة).
ويضيف الدكتور عبد الفتاح أن (الموالد في مصر ـ والتي أشار أحد الباحثين إلى أنها تتجاوز 2800 مولدًا ـ تعد من جانبها الاقتصادي فرصة عظيمة يجب أن لا يفوتها أي تاجر، فليس سهلًا أن تجد سوقًا يحضره من نصف مليون إلى مليوني شخص دفعة واحدة، إذ لو اكتفى عُشر المشاركين فقط بالتسوق والشراء لكان ذلك كفيلًا بتوزيع البضاعة والسلعة المعروضة).
ويشير الدكتور عبد الفتاح إلى أن (هذا البعد التجاري في الموالد هو الذي شجع أيضًا بعض الحرفيين وأصحاب الملاهي والفرق الاستعراضية على أن يكون لهم نصيب من الربح، فتجد المسجد الذي به ضريح الولي المزعوم وقد أحاطت به سرادقات الفرق الاستعراضية والبلهوانية؛ ليصبح الوضع أشبه بما هي عليه الكرنفالات والمهرجانات في بقية دول العالم، في الوقت الذي ربما لا يدخل فيه الكثيرون من هؤلاء المسجد لتأدية الصلوات).
ويرى الدكتور عبد الفتاح أن سبب (هذا الرواج التجاري في الموالد التي يفترض أن المشاركين فيها إنما شدوا رحالهم لها للزيارة والذكر، ربما بسبب انتشار الأمية الدينية والثقافية بين أغلبية هذه الفئات المشاركة، إذ الملاحظ أن هؤلاء يعتقدون أن شراء أية سلعة من السلع المباعة في الموالد هي من باب التقرب لهذا الولي أو ذاك).
ويلفت الدكتور عبد الفتاح النظر إلى أن (الكثير من المشاركين في الموالد ليسوا جميعًا سواء من ناحية دوافع مشاركتهم، فمنهم من يذهب عن قناعة بأهمية المشاركة باعتبارها واجبًا دينيًّا، وآخرون يذهبون فضولًا ورغبة في معرفة ما يحدث في هذه الموالد، وآخرون للتسلية والترويح، وآخرون للبيع والشراء، وآخرون لتحقيق مآرب أخرى).
تجارة للجميع:
أما الشيخ والداعية الإسلامي محمود عبد العال فيقول: (إن الموالد بالفعل تجارة لا علاقة لها بذكر الله تعالى، بغض النظر عن تلك الحلقات القليلة التي تشارك فيها أعداد محدودة فيما يسمى بحلقات الذكر، فالقائمون على إقامة هذه الموالد والحريصون على استمرارها لا يستهدفون من ورائها إلا تحصيل المال الذي يأتيهم عبر أبواب متعددة).
ويوضح الشيخ عبد العال - وهو مفتش بوزارة الأوقاف المصرية -أن (المساجد التي تقام بها هذه الموالد تجمع عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الجنيهات، في شكل نذور وتبرعات تجاوزت في جملتها سنويًّا خمسين مليون جنيه، حيث يتم إعطاء نسبة منها لموظفي هذه المساجد، فيما يذهب الباقي لوزارة الأوقاف التي بكل تأكيد يشغلها أن تقام هذه الموالد بشكل دوري ودون تعطيل، غاضة الطرف عما يحدث في هذه الموالد من بدع ومخالفات بالجملة ليس على المستوى الديني وحسب بل وأيضًا على المستوى الاقتصادي، حيث تعد الموالد أيضًا سوقًا رائجة للبضائع المغشوشة التي يتم ترويجها بعيدًا عن الرقابة الحكومية).
ويضيف قائلا:(أن للحكومة نصيب آخر في تجارة الموالد، فهي تفرض إتاوة تبلغ نحو2500 جنيه على كل صاحب خيمة، إضافة لمائة جنيه تحت مسمى "تبرع للمولد" يدفعها الزائرون صاغرين حبًّا في الولي أو صاحب الاحتفالية).
ويضيف الشيخ عبد العال أن (هناك من مدعي التدين والتصوف من يتاجرون بالموالد، حيث يقيم بعضهم سرادقات صغيرة يلتف حولها البعض من أتباع ورجال هؤلاء المدعين، الذين يروجون بأن الشيخ الفلاني أو العلاني لديه القدرة على معالجة المرضى والمسحورين والمحبطين والعاقرات والعاطلين، وهو ما يستقطب الكثير من ضعاف القلوب منهم والمتعلقين بقشة تنقذهم مما هم فيه، فيدفعون ما لديهم وهم موهمون بأن شفاءهم قد تحقق أو كاد).
وبكثير من الضيق والضجر يقول الشيخ عبد العال: (إن هذه الموالد وبكل أسف أصبحت فرصة أيضًا لأهل الدعارة والبغاء الذين يجدون في البعض من أصحاب الهوى بغيتهم، فيسعى القوادون سعيًا حثيثًا لالتقاط من تملكته شهوته، فلم يعمل اعتبارًا لحرمة أو حتى لولي مزعوم، وهو ما يعني أن هذه الموالد ما هي إلا لهو ولعب، ولا علاقة لها بذكر أو تقرب من الله).