الجمعة, 2025-07-04, 5:55:42 PM
أهلاً بك ضيف | RSS

      محمد على قرون               

تصويتنا
قيم موقعي
مجموع الردود: 26
الدخول
الة حاسبة
احصائية
الوقت والتاريخ

مدونة

الرئيسية » 2012 » مايو » 11 » آداب طالب العلم وآداب المريد نظرة مقارنة لمنهج التربية عند السنة والصوفية
3:45:25 PM
آداب طالب العلم وآداب المريد نظرة مقارنة لمنهج التربية عند السنة والصوفية

آداب طالب العلم وآداب المريد

نظرة مقارنة لمنهج التربية عند السنة والصوفية

عبد العزيز مصطفى الشامي

الحمد لله رب العالمين، سبحانه وتعالى له الحمد الحسن والثناء الجميل، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد ...

  لاشك أن طلب العلم، والصبر على تحصيله والعمل به؛ من أجلِّ العبادات والأعمال الصالحات، وبه ينال العبد رفيع الدرجات عند رب الأرض والسماوات، ولما كان العلمُ لا يُحصَّل ولا يُنال إلا بأدب جم يتحلى به طالبه، فقد حفلت كتب وأصول المدارس التربوية المختلفة على إيصاء طالب العلم بوصايا تؤهله لتحصيل العلم، وتساعده على الفهم، وتدفعه نحو الفوز به.

ولما كانت التوجهات والمقاصد مختلفة ولما تعددت المشارب على الساحة بين دعوات حق وأخرى باطلة، ودعوات تبني وأخرى هادمة، ودعوات على بصيرة من السنة الصحيحة وأخرى من أوهام البدعة والخرافات؛ فقد أردت في هذه العجالة بيان اختلاف الوصايا لطالب العلم عند أهل السنة، ووصايا المريد وآدابه عند الصوفية، والله أسأل الإعانة والتوفيق.

آداب طالب العلم:

إن العلم الشرعي هو ميراث النبوة، والعلماء هم ورثة الأنبياء، فبقدر حظ الإنسان من العلم الشرعي يكون حظه من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان طلب العلم من أفضل القربات، وأجلِّ الطاعات.

وينبغي على طالب العلم أن يتحلى بالآداب اللائقة بطلب العلم، والتي يمكن تقسيمها على النحو التالي:

آداب طالب العلم مع الله تعالى:

1- أن يكون مخلصًا لله تعالى في طلب العلم، فلا يطلبه لِمِرَاءٍ أَوْ رِيَاءٍ، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، أو لتماروا به السفهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك فهو في النار)[1].

2- أن يقف عند حدود الله ولا يتعداها، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، فكلما ازداد علمًا ازداد لله خشية، يقول مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: (مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَقْمَعُهُ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ لَا يَنْفَعُهُ)[2].

3- أن يغار على حرمات الله، ويدافع عنها آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، قلنا: لمن؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)[3].

4- أن يسلِّم لما جاء من الأحكام والتشريعات عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يقدم رأيه على النصوص الشرعية الواردة عن الله ورسوله؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

آداب طالب العلم مع العلماء:

1- أن يوقرهم، ويجلّهم، ويدعو لهم بالرحمة والمغفرة.

2- أن يظهر محاسنهم، ويغضّ عن مساوئهم.

3- أن يحسن الظن بهم، ولا يطعن فيهم لاجتهادٍ اجتهدوه يبتغون به أجر الله تعالى، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد، بل يدعو الله أن يجزيهم خيرًا عما أصابوا فيه، ويغفر لهم ما قصروا فيه.

آداب طالب العلم مع شيوخه:

1- أن يجتهد ويتحرى في اختيار أصحاب الديانة والتقوى والورع من العلماء، يقول ابن سيرين وغيره: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)[4].

وقال الخطيب البغدادي: (ينبغي للمتعلم أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة، وعُرف بالستر والصيانة)[5].

2- التواضع لهم وإجلالهم وتقديرهم، لأن الله رفع منزلة العلماء، فقال: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)[6].

3- ملازمتهم للاستفادة من هديهم وسمتهم؛ ليَكُون مُقْتَدِيًا بِهِمْ فِي أَخْلَاقِهِمْ، مُتَشَبِّهًا بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ؛ لينشأ عليها ويجتنب ما يخالفها، والنَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)[7].

4- التأدب في الجلوس بين يدي شيخه، وحسن الإصغاء إليه، وأن لا يتشاغل عن ذلك بشيء؛ لأن الله يقول: {مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4].

5- الصبر على ما قد يصدر عن شيخه من جفوة وشدة في بعض الأحيان، والتماس العذر له.

6- التلطف في السؤال عما أشكل عليه، فإنما شفاء العي السؤال، وأدب السائل من أنجع الوسائل، فإن سكت شيخه عن الجواب لم يلحف عليه في المسألة، وإن أخطأ تلطف في المراجعة، فقد قيل لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: بِمَ نِلْت هَذَا الْعِلْمَ؟ قَالَ: (بِلِسَانٍ سَئولٍ وَقَلْبٍ عقُولٍ)[8].

7- حسن الإصغاء حتى فيما سبق له به علم، فإن هذا من أحسن الأدب لطالب العلم، يقول عطاء بن أبي رباح: (إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه، فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئًا، وعنه قال: إن الشاب ليتحدث فأسمع له كأن لم أسمعه، ولقد سمعته قبل أن يولد)[9].

آداب طالب العلم مع زملائه:

1- أن يتواضع لهم، ولا يتكبر عليهم أو يتعالى عليهم بما أوتي من قوة حافظة أو حضور بديهة، فإن ذلك من النعم التي تقيد بالشكر.

2- أن يتعاون معهم بأن يفيدهم بما تعلم، ولا يتكبر عن التعلم منهم، (قِيلَ لِلْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ: بِمَ أَدْرَكْت هَذَا الْعِلْمَ؟ قَالَ: كُنْت إذَا لَقِيتُ عَالِمًا أَخَذْت مِنْهُ، وَأَعْطَيْته)[10].

3- أن يحب لهم من الخير والعلم ما يحب لنفسه، ويرغبهم في التحصيل ويساعدهم فيه.

4- أن لا يكثر المزاح معهم، أو يسخر بأحد منهم، أو يحسد واحدًا منهم.

آداب طالب العلم مع نفسه:

1- أن يعمل بعلمه، حتى لا يكون ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وفي الحديث: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ومنها: وعن علمه ماذا عمل فيه)[11]، وقد قيل: الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ أَقَامَ وَإِلَّا ارْتَحَلَ.

يقول الشعبي رحمه الله: (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكنا نستعين على طلبه بالصوم)[12]، ويقول وكيع بن الجراح: (إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به)[13].

2- أن يلتزم الأدب في نفسه، ويتعلمه من شيوخه، يقول الإمام مالك رحمه الله: (كانت أمي تعممني، وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه)[14]، ويقول عبد الله بن المبارك: (كانوا يطلبون الأدب ثم العلم)[15]، ويقول أيضًا: (كاد الأدب يكون ثلثي العلم)[16]، ويقول أبو زكريا العنبري: (علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كجسد بلا روح)[17].

3- أن يجتهد في تحصيل العلم ويصبر عليه، فقد قال يحيى بن أبي كثير: (لا يُستطاع العلم براحة الجسم)[18]، ولا يمنّي نفسه ويسوف في الطلب ويؤجل الطلب إلى وقت الفراغ، فإن لكل وقت شغلًا، ولكل زمان عذرًا، وأن يطلب المزيد من العلم، ولا يقنع بما يتحصل له منه، وليكن شعاره {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

4- أن يتدرج في طلب العلم؛ لأن التدرج سنة عامة في التعلم وفي غيره، وإن من طلب العلم جملة فاته جملة، كما قال ابن شهاب رحمه الله([19]، وإنما يدرك العلم حديثًا وحديثين، ولعل هذا بعض الحكمة في نزول القرآن الكريم منجمًّا على مدى سني البعثة، وأمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأه على الناس على مكث، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106].

5- أن يجتهد في الاطلاع على مختلف علوم عصره، بحيث يعلم شيئًا عن كل شيء، يقول الغزالي: (أن لا يدع طالب العلم فنًّا من العلوم المحمودة، ولا نوعًا من أنواعه؛ إلا وينظر فيه نظرًا يطلع به على مقصده وغايته، ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه، وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية؛ فإن العلوم متعاونة، وبعضها مرتبط ببعض، ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله؛ فإن الناس أعداء ما جهلوا، قال تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11])[20].

6- تأديته لزكاة العلم بتبليغه للآخرين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)[21].

ومما ينبغي على طالب العلم أن يهتم به: اختيار الصاحب:

احرص على اتخاذ صاحب صالح في حاله، كثير الاشتغال بالعلم، جيد الطبع، يعينك على تحصيل مقاصدك، ويساعدك على تكميل فوائدك، وينشطك على زيادة الطلب، ويخفف عنك الضجر والنصب، موثوقًا بدينه وأمانته ومكارم أخلاقه، ويكون ناصحًا لله غير لاعبٍ ولا لاهٍ[22].

وإياك وقرين السوء؛ فإن العرق دساس، والطبيعة نقالة، والطباع سراقة، والناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض، فاحذر معاشرة من كان كذلك فإنه المرض، والدفع أسهل من الرفع.

ومن رفيع آداب طالب العلم: التأدب مع الشيخ:

بما أن العلم لا يؤخذ ابتداءً من الكتب، بل لابد من شيخ تتقن عليه مفاتيح الطلب لتأمن من الزلل؛ فعليك إذًا بالأدب معه، فإن ذلك عنوان الفلاح والنجاح، والتحصيل والتوفيق، فليكن شيخك محل إجلال منك وإكرام وتقدير وتلطف، فخذ بمجامع الأدب مع شيخك في جلوسك معه، والتحدث إليه، وحسن السؤال والاستماع، وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك، أو الإلحاح عليه في جواب، متجنبًا الإكثار من السؤال لا سيما مع شهود الملأ؛ فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل، ولا تناديه باسمه مجردًا، أو مع لقبه بل قل: "يا شيخي، أو يا شيخنا".

وإذا بدا لك خطأ من الشيخ، أو وهم فلا يسقطه ذلك من عينك، فإنه سبب لحرمانك من علمه، ومن ذا الذي ينجو من الخطأ سالمًا[23].

ومن الأمور المهمة أن لا يعتقد طالب العلم في شيخه العصمة، فإن الشيخ ـ وإن كان على أكمل الحالات ـ فليس بمعصوم، إذ قد تصدر منه الهفوات والزلات، ولكنه لا يصر عليها ولا تتعلق همته أبدًا بغير الله تعالى، لأنه إذا اعتقد المريد في شيخه العصمة، ثم رأى منه ما يخالف ذلك؛ وقع في الاعتراض والاضطراب مما يسبب له القطيعة والحرمان.

ولكن لا ينبغي للمريد حين يعتقد في شيخه عدم العصمة أن يضع بين عينيه دائمًا احتمال خطأ شيخه في كل أمر من أوامره أو توجيه من توجيهاته، لأنه بذلك يمنع عن نفسه الاستفادة، كمثل المريض الذي يدخل إلى طبيبه وليس في قلبه إلا فكرة احتمال خطأ الطبيب في معالجته؛ فهذا من شأنه أن يُضعف الثقة ويُحدثَ الشكَّ والاضطراب في نفسه.

آداب المريد عند الصوفية:

وقد وضع المتصوفة آدابًا أوجبوها على المريد والسالك في الطريق الصوفي، وهذه الآداب نقول تجاوزًا أنها آداب، وإنما هي في الحقيقة جهل وانحلال وعبودية وإذلال, ومنها:

1- لا تخالف الشيخ مطلقًا فيما يأمرك به: هذا هو المبدأ الأول والشرط الأول والأدب الأول للمريد، وأن تكون موافقة الشيخ بالقلب والجوارح، فلا إنكار ولا مخالفة لشيء مما يقوله مطلقًا، ولا اعتراض عليه بلسان أو بقلب، وشعارهم دائمًا: "كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي الغاسل"!

يقول القشيري في بيان ما يجب على المريد: (وأن لا يخالف شيخه في كل ما يشير عليه؛ لأن الخلاف للمريد في ابتداء حاله دليل على جميع عمره)[24]، ويقول أيضًا: (ومن شروطه أن لا يكون بقلبه اعتراض على شيخه)[25]، وهذه الأقوال يقصد بها بالطبع إماتة القلب واستسلامه للدواهي والمصائب التي سيتلقاها المريد في طريقه الصوفي، والتي توصل في النهاية لاستسلام المريد لشيخه ليعبث بعقله وقلبه كيف شاء.

2- لا يجوز الإنكار على شيوخ التصوف أبدًا ولو مع المنكِر دليل: وهذه داهية الدواهي لأنه زعم بأن الشيخ له مذهبه الخاص الذي يتلقاه من النبي رأسًا، ولا حاجة عنده إلى التلقي من أي مذهب فقهي لأي إمام مجتهد، فلا تعترض أيها المريد على شيخك لأنه يتلقى الوحي غضًّا طريًّا، وهؤلاء العلماء عميان وهو مبصر!

3- لم يقتصر الأمر على طاعة الشيخ فيما لا فائدة منه ولا معقولية له، بل تعدى الأمر ذلك إلى الاعتقاد أن للشيخ شريعته الخاصة، ودينه المستقل؛ فله أن يشرب الخمر، أو يزني، وليس لمريده أن يسأل عن شيء من ذلك، يقول السلجماسي: (قال محيي الدين بن عربي ومن شروط المريد أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه ونبيه، ولا يزن أحواله بمسيرته، فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن، والحقيقة يجب التسليم، وكم من رجل كأس خمر بيده ورفعه إلى فيه وقلبه الله في فيه عسلًا، والناظر يراه شرب خمرًا وهو ما شرب إلا عسلًا، ومثل هذا كثير، وقد رأينا من يجسد روحانيته على صورة ويقيمها في فعل من الأفعال ويراها الحاضرون على ذلك الفعل فيه، ولو رأيناه فلا يفعل كذا وهو عن ذلك الفعل بمعزل، وهذه كانت أحوال أبي عبد الله المصلي المعروف بقضيب البان، وقد رأينا هذا مرارًا في أشخاص)[26].

ولم يكتف دهاقنة الفكر الصوفي بمثل هذا بل وضعوا آلاف الحكايات والروايات ليحملوا المريدين حملًا على الاستسلام لشيوخهم مهما فعلوا أمامهم، وأن يطيعوهم مهما أمروهم، فإن المريد إذا رأى شيخه يخرج من خلوة مع زانية معلومة مشهورة قام فسخن له الماء! أليس هذا إلغاء تامًّا للعقول، وغسلًا للألباب من أي فكر أو حمية أو غيرة دينية أو عاطفية صادقة؟!

ومن العجب العجاب أن المريد كان يرى شيخه على الزنا، ويصلي وهو جنب من زنا والماء بجواره، ثم يشرب الخمر وكل هذا لم يحرك شيئًا في المريد الصادق[27]!

ولم يكتف أرباب الفكر الصوفي بجعل معاصي الشيوخ من شؤم من يشاهدونها من الناظرين، بل جعلوا الشيخ ربما تعمد المعصية خشية على ذاته الترابية أن تتحول من شدة التجلي إلى ذات نورانية فتتلاشى!

4- وحتى يتم تذليل المريد تذليلًا كاملًا ويلغي عقله إلغاءً تامًّا؛ فإن شيخه يأمره بأوامر في غاية الغرابة، بل فيها المعصية الواضحة والكفر الصريح امتحانًا لطاعته، ومعرفة من الشيخ هل بقي من المريد مسكة عقل، أو أثارة علم، أو بقية غيرة، أو دين غير الدين الصوفي الباطني، فبعضهم يأمرون مريدهم بإحضار زوجاته لشيوخه ليختلي بهن فإن تلكأ أو شك في عفة الشيخ علم أنه غير صادق، وشيخ آخر يأمر تلاميذه ومريديه بما هو أقبح من ذلك.

5- لا حركة ولا سكون للمريد إلا بإذن الشيخ: من آداب المريد الصوفي مع شيخه أنه لا يجوز له أن يتحرك أو يسكن، أو يتصرف في نفسه أو ماله أو زوجته، أو سفره أو إقامته إلا بإذن شيخه، وأنه لا يجوز أن يجلس في مجلسه إلا بإذنه وأن يظهر قدمه أمام شيخه، أو يرفع صوته، أو يسأله من عند نفسه؛ لأن الشيخ أعلم بما في نفس مريده فلا يجوز أن يبدأ بالسؤال، أو يستفسر عن إشكال، وإنما ينتظر في كل ذلك ما يجود به شيخه لأنه في زعمهم هو أعلم بحاله، وليس وراء ذلك عبودية في الأرض، والعجيب أن المتصوفة قد أخذوا كل الحقوق والخصوصيات التي جعلها الله لرسوله فجعلوها حقًّا أيضًا للشيوخ.

قال القشيري: (ومن شروط المريد إذا زار شيخًا أن يدخل عليه بالحرمة، وينظر إليه بالحشمة؛ فإن أهل الشيخ لشيء من الخدمة عَدَّ ذلك من جزيل النعمة)[28].

فجعلوا خدمة شيوخهم من جزيل النعمة ومن تفضل الشيخ على المريد، والأمر على العكس لأن من يخدم غيره دون أجر هو المتفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للذين خدموا إخوانهم في السفر (ذهب المفطرون بالأجر كله)[29].

6- عدم كتمان شيء من الأسرار عن الشيخ: وحتى يتم أخذ المريد من نفسه والسيطرة الكاملة على كل قلبه وإحساسه وهواجسه؛ فإن شيوخ التصوف قد فرضوا على المريد أن لا يحجب شيئًا من أسراره عن شيخه، حتى لو كانت هذه الأسرار معاصي ارتكبها فإن الشيخ يتحملها عنه إذا أفضى بها إليه، وهذا نظير صكوك الغفران عند النصارى، أو كانت ـ في زعمهم ـ مكاشفات وأنوارًا وعلومًا إلهية (لدنية) فإن شيخه سيفرح بذلك ويطلب له المزيد.

7- ترك العهد الصوفي كفر وردة: وبعد، فقد يظن أن المريد الذي يلقى مثل هذه الأهوال في طريق التصوف يمكنه أن ينفلت في النهاية فيما لو استيقظ فكره، أو صحا ضميره وهذا ظن بعيد؛ ولكن من أجل هذه اليقظة المحتملة أيضًا قفل مشايخ التصوف الطريق نهائيًّا أمام المريد حتى لا يحاول النكال من ربقته؛ فقد جعلوا الخروج من عهد الشيخ خروجًا من الإسلام.

قال القشيري: (ومن شأن المريد حفظ حدوده مع الله تعالى، فإن نقض العهد في طريق الإشادة كالردة عن الدين لأهل الظاهر)[30]، وبهذا يغلق الطريق نهائيًّا أمام المريد الذي قد يريد فكاكًا مما دخل فيه إذا اطلع على تهاويل التصوف وترهاته.

نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا للبر والتقوى، ويريَنا وإياهم الحق حقًّا ويرزقَنا اتباعه، ويريَنا الباطل باطلًا ويرزقَنا اجتنابه، وأن يرد ضالنا إليه ردًّا جميلًا، وأن يهدي كل من أراد منا الحق فلم يُوفّق إليه.

 



[1] رواه ابن ماجه، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، (259)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، (250).

[2] أدب الدنيا والدين، الماوردي، ص(46).

[3] رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، (205).

[4] الآداب الشرعية، ابن مفلح، (2/233).

[5] الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، (2/96).

مشاهده: 395 | أضاف: kroon | الترتيب: 0.0/0
مجموع المقالات: 0
الاسم *:
Email *:
كود *:
بحث
التقويم
«  مايو 2012  »
إث ث أر خ ج س أح
 123456
78910111213
14151617181920
21222324252627
28293031
دردشة مصغرة
اليوم
 
Copyright MyCorp © 2025
استضافة مجانية - uCoz