خطب الشيخ القرضاوى
(خطبة عيد الفطر )
ألقيت في
ميدان عابدين بالقاهرة سنة 1977م
الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من
شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله
وسلامه عليه، ورضي الله عن آله وأصحابه، الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا
النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.
أما بعد فيا أيها المسلمون
هذا يوم العيد، هذا يوم التكبير، زينة أعيادنا نحن المسلمين التكبير،
فالله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله
أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر
شعار المسلمين، يدخل المسلم صلاته في كل يوم خمس مرات بهذه الكلمة العظيمة: الله
أكبر، يؤذن للصلاة كل يوم خمس مرات ويفتتح أذانه بهذه الكلمة: الله أكبر الله
أكبر، يقيم لصلاته كل يوم خمس مرات، يفتتح إقامته بهذه الكلمة: الله أكبر الله
أكبر، إذا ذبح المسلم ذبيحة، سمى الله وكبر: بسم الله والله أكبر.
الله أكبر
هي شعار المسلم في كل حين، إذا دخل المسلم معركة كانت الصيحة التي تملأ قلوب
الأعداء فزعا وخوفا، هي صيحة: الله أكبر الله أكبر.
الله أكبر
هي زينة العيد، فكبروا لله، وقولوا: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله
أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة المسلمون
هذا يوم العيد، هذا يوم عيد الفطر، وللمسلمين عيدان: عيد الفطر، وعيد
الأضحى. وكل عيد يأتي بعد عبادة من العبادات الكبرى، وبعد فريضة من الفرائض
العظمى، عيد الأضحى يأتي بعد الحج، وعيد الفطر يأتي بعد الصيام (… ولتكملوا العدة
ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون).
جاء هذا
العيد، ليفرح فيه المؤمنون بتوفيق الله، و(للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح
بفطره، وإذا لقى ربه فرح بصومه). إذا أفطر كل يوم فرح، وإذا أفطر بعد الفراغ من
رمضان فرح فرحة أخرى، هي فرحة التوفيق لطاعة الله عز وجل، هي أن الله سبحانه
وتعالى أنعم عليه بنعمة الصيام والقيام، وجاء العيد متمما لهذه النعمة، وفيه يفرح
المؤمنون بتوفيق الله (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
ومن شكر
نعمة الله على توفيقه ألا يعيش المسلم فرحة العيد وحده، بل يجتهد أن يشرك معه
الفقراء والمساكين من عباد الله، ولهذا فرض الإسلام زكاة الفطر من رمضان، يؤديها
المسلم عن نفسه وعمن يمونه ويلي عليه من زوجة وأولاد، وهي مقدار يسير يجب على من
يملكه فاضلا عن قوت يوم العيد وليلته ولو لم يكن مالكا للنصاب عند جمهور العلماء.
فقد أراد الإسلام أن يعود المسلم العطاء والإنفاق في السراء والضراء، وأن تكون يده
العليا يوما، فهو يعطي وإن كان فقيرا، وقد يعطي الصدقة من ناحية، وتجيئه -لفقره-
صدقات من ناحية أخرى، وفي الحديث: (… أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد
الله عليه أكثر مما أعطى).
والمسلم
يطلب المسكين في هذا اليوم ويوصل إليه الصدقة في مكانه، كما جاء: (أغنوهم عن
الطواف في هذا اليوم)
أيها
الإخوة: يوم العيد أشبه بيوم الوعيد، أشبه بيوم القيامة (وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة
مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة).
أما
المستبشرون الفرحون، فأولئك الذين أتم الله عليهم نعمة الصيام والقيام، فهم في هذا
اليوم يفرحون وحق لهم أن يفرحوا. وأما الوجوه التي عليها غبرة، ترهقها قترة، فوجوه
أولئك الذين لم يقدروا نعمة الله، ولم يمتثلون لأمر الله في الصيام والقيام، فيا
ويلهم ثم يا ويلهم (فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى * ثم ذهب إلى أهله يتمطى *
أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى).
أيها الإخوة المسلمون
هذا يوم عيدنا، يوم العيد ليس يوم انفلات ولا انطلاق للشهوات، بعض
الملل والنحل عيدها عيد شهوات، عيد إباحية ولذات، ولكن عيد المسلمين يبدأ بالتكبير
ويبدأ بالصلاة. فيه المعنى الرباني، فيه معنى الصلة بالله عز وجل، فأول شيء في
يومنا هو التكبير، وثاني شيء هو الصلاة.
العيد ليس
معناه انطلاقا من كل قيد، لا، وليس العيد قطعا للصلة بالله عز وجل. إن بعض الناس
يظنون انقضاء رمضان، هو انقضاء العهد بالمساجد والجماعات والصلوات والطاعات، لا
…لا يا إخوتنا المسلمين …لا، من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات، ومن كان يعبد
الله فإن الله حي لا يموت.
إن رمضان
موسم المتقين، ومتجر الصالحين، والتاجر يضاعف نشاطه في الموسم، ولكنه لا يغلق
دكانه بعد الموسم. إن رمضان موسم نشحن فيه بطاريات القلوب بمعاني الإيمان والتقى،
والرغبة فيما عند الله، والإقبال على ما عند الله. وعلامة القبول في رمضان، أن يظل
الإنسان موصولا بحبل الله بعد رمضان، ألا يقطع الود بينه وبين ربه، وقد كان بعض السلف
يقولون: بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، كن ربانيا ولا تكن رمضانيا.
لا تكن
إنسانا موسميا يعرف الله شهرا في العام، ثم بعد ذلك ينقطع عن طاعة الله، وعن عبادة
الله.
من كان قد
قبل صيامه، وقبل قيامه، فلذلك علامة. علامة هذا أن نجد أثر ذلك بعد رمضان (والذين
اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم).
فمن علامة
قبول الحسنة، ومن ثواب الحسنة: الحسنة بعدها. ومن عقوبة السيئة: السيئة بعدها.
فيا أخي
المسلم كن مع الله دائما، إن الله يحب الطاعة في كل زمان، ويكره المعصية في كل
أوان، ورب رمضان هو رب شوال، هو رب ذي القعدة، هو رب سائر الشهور.
كن مع
الله أبدا، اتق الله حيثما كنت، في أي مكان كنت، وفي أي زمان كنت، وعلى أي حال كنت
(ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله …).
أيها الإخوة المسلمون
نحن في يوم العيد … عيد الفطر، نحن في يوم من أيام الله، نحن في يوم
مهرجان إسلامي، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العيد في الخلاء، ولم يرد أنه
صلى العيد في مسجد، إلا ما روي أن السماء أمطرت يوما فاضطر إلى إقامة العيد في
المسجد. وإنما كان يصلي في الخلاء، ليجتمع المسلمون الذين في المدينة جميعا في
صعيد واحد، وفي مكان واحد، في مهرجان إسلامي كبير، يجتمع فيه الرجال والنساء، حتى
أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: إذا كانت إحدانا ليس لها (جلباب) أي عباءة، أو
ملاءة، أو ثوب خارجي تلتحف به وتخرج، فماذا تفعل يا رسول الله؟ قال: لتعرها أختها
من جلبابها. تستعير جلبابا وتخرج للصلاة.
وكان
الصبيان يخرجون، وكانت المرأة تخرج، حتى المرأة الحائض، التي ليس عليها صلاة، ولا
يقبل منها صلاة، كانت تحضر العيد، تعتزل الصلاة، ولكنها تشهد الخير ودعوة المسلمين.
والحمد
لله قد أحيا الشباب الإسلامي في هذا البلد هذه السنة، التي أميتت زمنا طويلا، سنة
مشاركة المرأة المسلمة في صلاة العيد، فجعلوا جناحا للأخوات المسلمات، وجعلوا كذلك
متسعا للصبيان، وشجعوهم بالحلوى والهدايا، وهكذا ينبغي أن نكون. ينبغي أن نحيي
السنن المهجورة، السنن التي أماتها الناس في عصور التخلف والانحطاط، ونحمد الله عز
وجل أن سننا كثيرة قد أحييت، بفضل الحركة الإسلامية، حركة الإسلام، وحركة الشباب
المسلم في هذا البلد.
كانت هناك
سنة لم يكن يعرفها إلا القليل النادر، أو الشاذ من الناس، وهي سنة الاعتكاف في
رمضان، وفي العشر الأواخر من رمضان. والحمد لله أحييت هذه السنة بفضل هذا الشباب
الإسلامي في كثير من المساجد، فالحمد لله ما زال الإسلام بخير.
رأينا
عشرات ومئات من الشباب، يتحدون (المودات)، ويتحدون البدع الوافدة من الشرق والغرب،
يطلقون لحاهم، ويحيون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رأينا
أخوات مسلمات، يقفن ضد التيار … التيار الزاحف بالفجور والتحلل ويتحجبن، بل
ويتنقبن. إن هذا النقاب الذي يعترضه بعض الناس -وإن كنت لا أقول بوجوبه ولا
استحبابه في عصرنا- إنما يمثل التحدي، التحدي للحضارة الغربية: حضارة التحلل
والعرى والإباحية، والتحدي لعبيد الحضارة الغربية وتلاميذها.
الحمد
لله، هذه الحركة الإسلامية نجدها -والحمد لله- في كل مكان. شباب مسلم صدقوا ما
عاهدوا الله عليه، يصومون الاثنين والخميس، يقرأون القرآن، يقرأون السنن والسير،
يتفقهون في دين الله يقومون بخدمة المجتمع، يستبقون الخيرات.
كان الناس
قد ظنوا يوما أن الحركة الإسلامية في هذا البلد لن تقوم لها قائمة، فلقد ضربت
ضربات وحشية متلاحقة. في عهد الطغيان، اختلطت السياط باللحوم والدماء في رجال
وشباب من أبناء هذا البلد، ولكنهم ظلوا رجالا والرجال قليل. كان هناك من يتحدى
الله فوق سماواته وفوق عرشه، كان هناك من يقول: هاتوا ربكم وأنا احطه في زنزانة !!
كان هناك المتجبرون المتكبرون. أين هؤلاء؟ لقد ذهبوا، ذهبوا ولم يعد لهم إلا ذكر
السوء، ولعنة السوء عليهم من الله والملائكة والناس أجمعين.
وبقي
الإسلام، وبقيت حركة الإسلام، بقيت هذه الحركة، لم يطو بساطها كما ظنوا، لم تنكس
أعلامها، بل ظهرت في مثل هذه التجمعات الإسلامية، التي يدعو إليها الشباب المسلم
المثقف.
يا أيها الإخوة
الإسلام بخير إذا وعيناه، وفهمناه، وعملنا له، والتففنا حوله. إن هذه
الظاهرة … ظاهرة الشباب الإسلامي، في كل مكان، المعسكرات الإسلامية، المخيمات
الإسلامية، الوعي الإسلامي، إنها ظاهرة صحية.
إنها
ظاهرة ترينا بكل وضوح، أن هذه الأمة لم تكفر بربها، ولا بقرآنها، ولا بمحمدها عليه
الصلاة والسلام، إنها ما زالت موصولة بالإسلام، وإنما تحتاج إلى من يصحيها، إلى من
ينبهها من غفلتها، إلى من يوقظها من نومها، إلى من يجمع شتاتها، إلى من يحيي
مواتها، إلى من ينفخ فيها روح الإيمان، وإلى من يناديها بـ (الله أكبر).
(الله أكبر) هي الكلمة التي تفعل الأعاجيب. (الله أكبر) هي الكلمة
التي توقظ القلوب من الغفلات، هي التي تجمع الناس من الفرقة والشتات.
هذه الأمة
فيها خير، فيها كنوز مرصودة، ولكن أين منينبش عنها؟ ليس هناك شيء يحرك عزائم هذه
الأمة مثل كلمة الإيمان وكلمة الإسلام.
لن تحركها
الاشتراكية، ولا الثورية، ولا الديمقراطية، ولا العروبة، ولا الوطنية، ولا
القومية، وإنما حركتها كلمات الله، حركتها كلمة الإسلام، حركها (قطز) يوم نادى
فيها نداءه المعروف: وا إسلاماه … وا إسلاماه، ولا زال الأمر كذلك.
هذه الأمة
إنما تقاد باسم الله، باسم الإسلام، باسم الإيمان. بغير هذا لا يمكن أن تجد هذه
الأمة نفسها، ولا أن نصنع منها شيئا ذا بال.
إن لكل
أمة شخصية، ولكل شخصية مفتاح، إنك إذا أردت أن تفتح قفلا بغير مفتاحه، لن يفتح إلا
إذا كان قفلا غير أصيل. القفل الأصيل لا يفتح إلا بمفتاحه الخاص.
وهذه
الأمة مفتاحها الإيمان، حركتها بالإيمان تتحرك، قدها بالإيمان وهي تنقاد، اجعل
منها أمة الأمم إذا حركتها بدوافع الإيمان بالله عز وجل، إنها تتخطى العقبات،
وتصنع المستحيلات، وتنشئ البطولات، وتعيد لنا عهد خالد وطارق وصلاح الدين من جديد،
وهذا ما يخشاه أعداء هذه الأمة.
يخشون أن
تتحرك هذه الأمة بالإسلام، ولهذا يضعون العقبات وراء العقبات، ويحاولون تشويه
الحركة الإسلامية، والتخويف منها، والتنفير من دعوتها، وإطلاق الشائعات حولها، وما
رأينا أنظف من هذه الحركة، ولا أمثل منها، أهدافا وطرائق وأسلوبا ورجالا وشبابا وشابات،
النظافة في كل شيء، الإخلاص في كل شيء، الإيمان في كل شيء، هذا أيها الناس ما
ينبغي أن نسجله، وهذا ما يفرح به المؤمنون.
وفي مقابل
هذا أريد أن أسجل شيئا: لقد جئت قبل انقضاء رمضان بيومين، ولكني رأيت عجبا، ما كنت
أراه من قبل في هذا البلد، البلد الذي دينه الإسلام … بلد المساجد …بلد الأزهر …
بلد العلم والقرآن، رأيت عجبا أيها الإخوة المسلمون، رأيت الناس يعالنون بالإفطار
في رمضان، رأيت محلات العصير والناس عليها مزدحمون، رأيت من يبيع (العرقسوس)
و(الكولا) وغيرهما في الشوارع في نهار رمضان، حتى في حي الأزهر. رأيت وسمعت أن
الناس يجاهرون بشرب الدخان في الشوارع، رأيت أشياء من هذا النوع.
أين نحن؟!
أنحن في أوربا أم في أمريكا؟! ألسنا في مصر، والتي حملت الإسلام وحمت ذماره أكثر
من ألف عام؟ ألسنا في بلد الأزهر؟ ألسنا في بلد العلماء؟ ألسنا في بلد القرآن؟
ما هذا؟
ولم السكوت على هذا المنكر؟
إن أشد من
المنكر أن يسكت على المنكر، أن يحدث هذا ولا يجد المفطر المجاهر من يقول له: أيها
المفطر اختبئ إن كنت معذورا، وإن كنت فاجرا فلا تظهر فجورك على الناس.
لم يفعل
هذا الشعب، ولم تفعل هذا الشرطة، ولم يفعل ذلك أحد، فأين نحن؟! وكيف ننتظر نصر الله
عز وجل إذا كنا نرتكب المنكرات عيانا بيانا، جهارا نهارا؟! ونصر الله لا يأتي إلا
إذا نصرناه، والله تعالى قد حدد صفة المنصورين، الذين يستحقون نصره بقوله (…
ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم من الأرض أقاموا
الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).
كيف يحدث
هذا في بلد إسلامي، بل في بلد واجهته الإسلام، ويفتخر بالإسلام، كيف تحدث هذه
المنكرات؟!
كنت أعلم
من قديم أن الناس قد يتركون الصلاة، ولكن إذا جاء رمضان صلوا، وإذا جاء رمضان
صاموا. كان الإنسان الفاجر … الإنسان الشرير، لا يجرؤ على انتهاك حرمة رمضان. كان
لرمضان حرمة، وهيبة في قلوب الناس، حتى النصارى كانوا يتركون شرب الشاي والتدخين
في مكاتبهم طوال نهار رمضان، رعاية لحرمته عند المسلمين، فليت شعري أين ذهبت هذه
المهابة؟! وأين ضاعت هذه الحرمة؟!
إن النبي
صلى الله عليه وسلم حذرنا من هذا العصر الذي تموج فيه الفتن كموج البحر، والتي تضل
الناس عن عقائدهم ببريق المادة، وجاذبية الطين، يقول عليه الصلاة والسلام: (بادروا
بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا،
ويصبح كافرا، يبيع أحد دينه بعرض من الدنيا قليل)
ومن فتن
هذا العصر التي حذرت منها الأحاديث: طغيان النساء، وفسق الشباب، وترك الجهاد في
سبيل الله، وترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بل اضطراب المعايير، حتى يرى
الناس المعروف منكرا، والمنكر معروفا ! وهو ما جاء في الحديث الذي رواه أبو أمامة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كيف أنتم إذا طغى نساؤكم، وفسق شبابكم،
وتركتم جهادكم؟ قالوا: وإن ذلك كائن يا رسول الله؟ قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد
منه سيكون. قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف أنتم إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا
عن المنكر؟ قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ ! قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه
سيكون. قالوا: وما أشد منه؟! قال: كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر
معروفا؟ قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟! قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه
سيكون، يقول الله تعالى: (بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران)
نحن في
هذه الفتنة التي تذر الحليم حيران، ولكن لهذه الفتنة مخرجا واحدا، هو الرجوع إلى
الإسلام، إلى القرآن … دستور هذه الأمة ومنهاجها الرباني. روى الترمذي عن على بن
أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ستكون فتن كقطع
الليل المظلم. قلت: يا رسول الله وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى،
فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من
جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره
المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا
تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله
الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم ينته الجن إذ
سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا. من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم
به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
القرآن هو
المخرج لهذه الأمة، لا القوانين الوضعية، ولا الأنظمة اليمينية أو اليسارية، إنه
القرآن وحده، علينا أن نعود إليه ونتبع هداه، وقد ذكرنا رمضان بالقرآن، فرمضان شهر
القرآن. يقول الله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون).
فبركة القرآن في اتباعه والعمل بما فيه، والحكم بما أنزل الله فيه، ليست البركة
فيه أن نعلقه لافتات للزينة، أو نقرأه على الموتى، أو نجعل منه حجبا للحبالى
والأطفال. القرآن حرز للإنسانية كلها من الضلال، القرآن قد نزل ليحكم الأحياء لا
ليقرأ على الأموات، القرآن نزل ليطبق في المحاكم
لا ليتلى في المآتم، القرآن دستور هذه الأمة،
فينبغي أن نعود إليه، لنتدبر آياته، ونحسن فقهه، نحسن تطبيقه، ونجعله لنا خلقا،
كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأن خلقه القرآن (كتاب أنزلناه إليك مبارك
ليدبروا آياته وليتذكروا أولوا الألباب).
أيها الإخوة المسلمون
ما أجدرنا في هذا الجمع الحاشد، أن نتداعى جميعا إلى العودة إلى
الإسلام … إلى القرآن … إلى دين الأمة. لقد جربنا الأنظمة يمينية ويسارية،
المستوردة من الشرق والمستوردة من الغرب، جربنا هذه الحلول، جربنا التسول من موائد
الآخرين، من هنا وهناك، فماذا صنعت هذه الحلول المستوردة، والأنظمة المتسولة؟ إنها
لم تجن علينا إلا الهزيمة، و العار، والنكسات، والوكسات، والفساد الأخلاقي،
والتحلل الأسري، وشك الإنسان في أخيه، وزعزعة الثقة بين الناس. ما حققنا نصرا
عسكريا ولا رخاء اقتصاديا، ولا استقرار سياسيا، ولا ترابطا اجتماعيا، ولا رقيا
أخلاقيا، ولا سموا روحيا. ماذا حققنا من وراء هذه المذاهب، وهذه الحلول المستوردة
المتسولة؟.
إن حراما
على الغني أن يتسول. تسول الأغنياء أمر تعاقب عليه القوانين، وتنكره الأخلاق، ونحن
أغنياء بمبادئنا الإسلامية، بشريعتنا الربانية، بمناهجنا المحمدية، بتراثنا
العظيم، فلماذا نستورد؟! ولماذا نتسول؟!.
يا أيها الإخوة
لنعد إلى قرآننا: النور الإلهي، وإلى سنة نبينا: النور النبوي.
الأنوار بجوارنا، لا ينقصنا إلا أن نضغط على الزر لتنير الحياة من حولنا، أنوار في
كتاب الله، وفي سنة رسول الله، والخلاص في أن نعود مستمسكين بعرى التوحيد، بمعنى
لا إله إلا الله محمدا رسول الله، بمعنى أن نعود مسلمين كما كنا، مسلمين حقيقة لا
بالأسماء، ولا بالوراثة، ولا بالوجود في أرض الإسلام.
لا نريد
مسلمين جغرافيين، لا نريد مسلمين وراثيين، لا نريد مسلمين شكليين، إنما نريد
مسلمين مستعدين أن يبذلوا في سبيل دينهم، مستعدين أن يضحوا من أجل هذا الدين، فكل
أصحاب ملة, وكل أرباب نحلة يبذلون في سبيل مللهم، وفي سبيل نحلهم، فما بالنا لا
نضحي نحن في سبيل الإسلام؟!.
يا أيها الإخوة المسلمون
إن هذا الدين منصور ولا محالة، ولكن إنما ينتصر بفضل الله،
وبالمؤمنين، كما قال الله تعالى لرسوله: (… هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين).
إن عدد
المسلمين في العالم يقاربون -وربما يتجاوزون- البليون.. الألف مليون، ولكن العبرة
ليست بالأعداد الوفيرة، ولا بالجموع الغفيرة، العبرة بالكيف لا بالكم. يوم كان
المسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، حققوا نصرا عظيما، سمى الله يومهم: (يوم
الفرقان)، فرق فيه بين الحق والباطل، وصدق الله العظيم: (ولقد نصركم الله ببدر
وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون). (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض
تخافون أن يتخطفكم الناس فآراكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).
يوم كانوا
قلة مع الله، يوم كانوا مع الإسلام الحق، نصرهم اللهالملايين، ولكن ما قيمة هذه
المئات الذين تجمعهم زمارة. ونحن الآن مئات وتفرقهم عصا؟! ما قيمة آلاف وملايين
إذا كانوا كما قال القائل:
ثم لا يغنون في أمر
جلل؟!
|
يزحمون الأرض من
كثرتهم
|
ما قيمة
الملايين ومئات الملايين إذا كانوا على غير ما وصف الأنصار رضي الله عنهم: يكثرون
عند الفزع، ويقلون عند الطمع؟! ما قيمة هذه الملايين إذا كانوا كما وصفهم النبي
عليه الصلاة والسلام -وصف مسلمي آخر الزمان- بأنهم كثرة كغثاء السيل؟! الغثاء: هو
القش والحطب والورق والرغاوى والأشياء الخفيفة التي يحملها السيل، فهذه تذهب جفاء
ولا تنفع الناس (… فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)
يا أيها الإخوة المسلمون:إنى داع فأمنوا اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم
والأموات. اللهم افتح لنا فتحا مبينا، واهدنا صراطا مستقيما، وانصرنا نصرا عزيزا،
وأتم علينا نعمتك، وانشر علينا رحمتك، وأنزل في قلوبنا سكينتك. اللهم تقبلنا في
جندك الصادقين، وحزبك الغالبين، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. اللهم اعل بنا
كلمة الإسلام، وارفع بنا راية القرآن، واجعل كلمة المسلمين هي العليا، واجعل كلمة
أعدائهم هي السفلى. اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك. اللهم أهل
هلال هذا العيد علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب
وترضى. اللهم تقبل صيامنا، وقيامنا، وصالح أعمالنا، وأخرجنا من هذا الموسم برحمة
ومغفرة وعتق من النار.
(… ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على
القوم الكافرين)، "ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب"،
(… ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)، (… ربنا اغفر
لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك
رءوف رحيم).
عباد
الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر
والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).
وصلى الله
وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

|